نهاية منافق
في ليلة دامسة من ليالي شتاء عرف بشدة برده وكثرة أمطاره وثلوجه. جرفت مياه سيل عارم جرذاً إلى مسافات بعيدة عن جحره، كاد اندفاع الماء الغزير يقضي على الجرذ لولا أن اعترضت مجرى السيل صخور كثيرة ذات أحجام وأوزان مختلفة، أعاقت اندفاعه مما أتاح للجرذ فرصة النجاة حيث وجد نفسه فجأة داخل وكر يحوي بقايا أطعمة. كاد أن يبدأ بقضمها لولا أن التعب والإعياء والنعاس حالت دون ذلك.
في ساعة متأخرة من تلك الليلة دخل الثعلب وكره فوجد الجرذ يغط في سبات عميق، كان الثعلب جائعاً، لكنه وعملاً بنصيحة أمه التي حذرته مراراً من أكل الجرذان خصوصاً، والحيوانات التي اختارت المجاري القذرة مسكناً لها عموماً. امتنع عن أكل الجرذ مردداً في نفسه: كم كان رائعاً لو كان هذا الدخيل ديكاً حبشياً أو أرنباً بريّاً، أو دجاجة سمينة، إذاً لأسكت عصافير بطني في هذه الليلة الحالكة التي ينطبق عليها القول الذي كانت تردده عجائزنا دائماً: "ليلة لا يعوي ديبها". أما هذا القبيح فماذا أفعل به؟ رائحته كريهة ومنظره يبعث على الاشمئزاز والقرف.
ركل الثعلب الجرذ النائم بقدمه ركلة قوية أيقظته مرعوباً، وما إن فتح عينيه حتى تناوله بضربة أخرى على رأسه كادت تدميه.
كان هدف الثعلب من فعله هذا معاقبة الجرذ على تجرئه على دخول وكره من جهة، ودبّ الرعب في قلبه من جهة ثانية.
كان الثعلب منذ زمن طويل يحلم أن يكون لـه حارس أمين على باب وكره ينبهه لأي خطر قد يداهمه، ويتنمر عليه ويطبق عليه كل حيله الجديدة. ويشعر بينه وبين نفسه أنه قوي، ذكي، محتال، سريع الحركة، إلى جانب أن وجود الحارس علامة على الأهمية، وعلو الشأن، فوجد ضالته المنشودة في الجرذ الذي لا يدري ماذا يمكن أن يطلق عليه اسم: المحتل، الدخيل، الضال طريقه، الزائر بلا دعوة، ولا موعد مسبق الخ.
بعد الضربة الأولى والتي بثّ فيها الثعلب هيبته، ومخافته في قلب الجرذ، ضمن أن هذا الأخير لن يخالفه في أمر مهما كانت الظروف. فبادر وعرض عليه أن يكون حارسه، وهو بدوره يؤمن لـه ما يحتاجه من غذاء وحماية.
أفرح هذا العرض قلب الجرذ، فالمكان الآمن للنوم موجود، والطعام سيؤمنه سيده الثعلب. وما عليه إلا أن يكون الخادم والحارس الأمين.
قبل أن يستلم الجرذ مهام منصبه الجديد، ويبدأ مزاولة أعماله بحراسة سيده الثعلب، كان هذا الأخير يستقبل بين الحين والآخر زواره، وأصحاب القضايا المحتاجين لمشورته ومساعدته. أما الآن فالجرذ أتقن فن التعامل مع حيوانات الغابة. إذ كان نادراً ما يسمح للمظلومين المتظلمين برؤية سيده. بل ولا حتى الزوار الأقل مرتبة، إذ كانوا بحاجة إلى انتظار طويل حتى ينالوا شرف مقابلة الثعلب، فالزيارات والمقابلات يجب أن تتم بمواعيد مسبقة. ولأهداف وغايات تعود بالنفع والفائدة على الثعلب بالدرجة الأولى، وعلى حارسه بالدرجة الثانية.
أَمَّا أن يستقبل الثعلب زواراً لحلّ مشاكلهم أو مساعدتهم في حلّها دون مقابل أو منفعة أو مصلحة، فكان الجرذ يعرقل مثل هذه الزيارات وبالتالي يحول دونها.
الثعلب كما هو معروف عنه محتالاً، ذكياً، فهم رغبة الجرذ في الأكل. فكان يحضر لـه طعاماً زائداً عن حاجته، تحسنت صحة الجرذ وزاد وزنه كثيراً، كان يعلل ذلك بالوقار، وبأن ضخامة الجسد علامة من علامات الغنى والنعمة، كان يحرص على سماع أخبار الحرج كل يوم وينقلها إلى سيده الثعلب، وكان يمطره بعبارات التفخيم والإطراء قبل وبعد كل وجبة طعام. كان يؤكد لـه كل يوم أنه وحده زعيم هذا الحرج وحتى الأحراج المجاورة. وهو وحده الذي يملك حارساً على باب وكره. وقد يكون زعيم الغابة المطلق في المستقبل وأن وحوش الغابة كلهم يخافونه ويحسبون لـه ألف حساب.
الثعلب يعلم جيداً إمكاناته، ومع ذلك ينعشه الإطراء أحياناً وكم من مرة رأى في منامه أنهم نصبوه زعيم الغابة المطلق. وعندما يستيقظ يفسر حلمه هذا أنه نتيجة تكرار الجرذ على مسامعه أنه الزعيم الذي لا يشق لـه غبار.
إلا أنه لم ينسَ الرعب الذي دبّ في أوصاله عندما رأى ذات يوم وعلى مسافة بعيدة نمراً من نمور الغابة يتجه نحوه، وكيف طار هلعاً ورعباً من الزعيم الحقيقي. فالثعلب يدرك أن الزعامة تمنحها الحياة للزعماء الحقيقيين. لا جرذ منافق أمضى عمره في أنفاق الأرض وفي أماكنها القذرة. ولم ير نمراً واحداً في حياته. أو يلتقي وحشاً كاسراً من وحوش الغابة.
ذات يوم قرر الثعلب التخلص من الجرذ المنافق. دعاه لنزهة في الهواء الطلق، بعيداً عن مكان إقامتهما، كان فرح الجرذ كبيراً، إذ سيسير بمحاذاة الثعلب. ولربما اعتبرا نفسه نداً له. وما إن اقتربا من فوهة بئر عميقة حتى ركل الثعلب الجرذ بقدمه ركلة قوية، وجد الجرذ نفسه على أثرها في أعماق البئر. وقبل أن ينطق الجرذ بأية كلمة وقف الثعلب وقال له:
أمضيتُ عمري في الاحتيال والخداع. وكنت أحياناً أنتقد نفسي لهذا الطبع الذي رافقني منذ الولادة. والذي ابتليت به طوال عمري، ولسوء حظي ابتليت بك أيها المنافق. أم أنك تظن أيها الأبله أنني أثق بكلامك المعسول الذي كنت ستقوله لأي ثعلب آخر، شريطة أن يطعمك ويدبّ الرعب في أوصالك.
ومع ذلك اطمئن فسأخرجك من الماء حالما أصبح زعيماً للغابة كما كنت تقول لي دائماً.
ذهب الثعلب غير آسف على جرذ امتاز بالنفاق. ودأب على وضع نفسه في غير مكانها الحقيقي. وحال بين الثعلب وبين المحتاجين لمساعدته ومشورته من أبناء جنسه، وعلى التفوّه بكلمات المديح والإطراء التي لا تحمل من الحقيقة شيئاً.